بدناش رز وبدناشكو تحاربوا بدنا مصر تلعب سياسة بس
كان زميل عزيز من زملاء الدراسة دائما ما
يعلق على انشغالي بالموضوع الفلسطيني: "سايبة ابنها يعيَّط، ورايحة تسَكِّت
ابن الجيران!"، ومن جانبي كان دائما عندي ثلاثة أسئلة لم أجد الرد عليها
عنده:
١ــ إنت مش شايف إن اللي بيبَكِّي ابن الجيران ده هو نفسه اللي مزعَّل ابني؟
٢ــ ابني أو ابننا، له ملايين الآباء والأمهات، ممكن نتناوب ما بينه وبين ابن الجيران؟
٣ــ وكمان، إيه بقى مساهمتك إنت في محاولة إرضاء ابننا؟لم
أجد إجابة، وبمرور السنين لم أعد أسأل، وبقيت أقول: "إن شاء الله هابطَّل،
هو فعلا موضوع مايهمناش، أكتب لي صيغة تعهّد وأنا أمضيها".
الآن،
مع الوقت والتجربة، أصبحت أرى أن الحوار بين البني آدمين إما أن يكون
لتبادل معلومات، أو لمحاولة الإقناع وتقريب وجهات النظر، أو لإعطاء شحنة
دافعة من المشاعر الإيجابية، أما إذا كان للتعبير عن الرأي، وآدي رأيي هنا
وآدي رأيك هناك، وفي الآخر ليست هناك أية إمكانية، أو حتى أمل، إن رأيي
ورأيك يقربوا من بعض شوية، أو ينتج عن تلاقيهم (أو اصطدامهم) أي شيء جديد
أو مفيد، يبقى خلاص: أنا عرفت رأيك وأنت عرفت رأيي، والتعبير المتكرر
مالهوش لزوم؛ فهو مثبط للهمم ومُضَيِّع للوقت ومُهدِر للنَفَس.
وفي
العقود الثلاثة الماضية، أو يعني منذ معاهدة كامب ديفيد، وهذا الجدل
التفاضلي موجود بشكل ما على الساحة المصرية، والرأي الذي يحبّذ إن كل واحدة
تقفل بابها، وتنَزِّل الستائر وتسَكِّت ابنها، يضيف أن مصر قدّمت كفاية
لفلسطين، وأن إحنا مش قد إننا نحارب إسرائيل؛ لأن اللي بيحارب إسرائيل
بيحارب أمريكا، وكان من الواضح دائما أن النظام المباركي يعتنق هذا الرأي
ويستميت عليه، أما رئيسنا الحالي (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) فمن
المفهوم أن تتسم مواقفه بنمط عسكري في التفكير.
حين التقيت اللواء
حسن الرويني -في إطار اللقاء بين القيادة العسكرية ومجموعة "لا للمحاكمات
العسكرية للمدنيين" في يونيو- سألته في حديث جانبي: لماذا أغلقوا الطريق
ولم يسمحوا لنا بالذهاب إلى رفح في "يوم الأرض" حين تظاهر ناشطو العالم كله
لمساندة الشعب الفلسطيني؟ وجاء رده بمعنى وجوب عدم الدفع بمصر إلى مواجهة
عسكرية مع إسرائيل؛ يعني لو ضربوا نار على المتظاهرين هيكون موقفنا إيه؟
مرت الأيام واتضح الموقف من قتل المصريين؛ هو طلب مهذب لإسرائيل بالاعتذار،
وتراجع عن إمكانية بدت للحظة بسحب السفير! فيبدو أن التفكير هنا ينحصر بين
قطبين: إما الحرب، وإما عدم الفعل.
ويمكن أن نُنَظِّر ونقترح أن
هذا الفعل عند العسكر هو الحرب؛ ولكن حتى في الحرب هناك مناوشات، ومناورات،
وخديعة، وتمويه، ومعارك صغيرة، وغيرها... ويمكن إسقاط كل هذه المنظومة على
السلم أيضا.. المهم أن تكون هناك خطة واستراتيجية.
وفي مقابل رأي
"مصر قدمت كفاية"، هناك الرأي القائل بأن تأثير مصر على الحالة الفلسطينية
كان تأثيرا كارثيا من فقدان القدس والضفة والقطاع في ١٩٦٧، إلى التعاون في
إغلاق وتجويع غزة، إلى عرقلة إمكانيات التصالح بين حماس والسلطة الفلسطينية
لسنوات عديدة؛ بل والدخول في مؤامرة ضد الحكومة الفلسطينية المنتخبة،
وتدريب عناصر فتح عسكريا، وتوصيل السلاح لهم للإطاحة بهذه الحكومة
"الحمساوية"؛ أي العمل على إشعال حرب أهلية في فلسطين لصالح السيد محمد
دحلان وشركائه وتلبية للرغبات الإسرائيلية-الأمريكية.
ومع هذا يظل
إخواننا في فلسطين يتعاملون معنا بمحبة وأدب؛ تأتي قياداتهم إلى القاهرة
حين نستدعيهم، يفرح مواطنوهم لثورتنا ولنجاحاتنا، يغدقون علينا الشكر
والثناء حين تسمح خارجيتنا -في عهد الدكتور نبيل العربي القصير جدا والمضيء
جدا- لفصائلهم أن تجد تآخيها التائه.
وبين القطبين، أزعم أن أغلب
الشعب المصري يحمل فلسطين -بشكل ما- في قلبه، ولنتذكر دائما أن الحراك
السياسي في الشارع المصري، وتيار المقاومة الشعبية للنظام -وهو الذي أثمر
ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١- بدآ بالتظاهرات المساندة للانتفاضة الفلسطينية الثانية
في عام ٢٠٠٠، وبنشاط اللجنة الشعبية لمناصرة الانتفاضة الفلسطينية التي
كانت تجمع التبرعات لأهلنا في فلسطين في فترة الاجتياحات العسكرية
الإسرائيلية للمدن الفلسطينية. وكانت هذه اللجنة من الشباب المتطوع، تجمع
المساعدات من قرى ونجوع مصر وأحيائها الشعبية؛ فتخرج إليها ربات البيوت
بالأكل المطبوخ، ويتبرع لها أصحاب معامل الأدوية بأضعاف ما تستطيع اللجنة
دفع ثمنه.
وكان من عواقب شعبية هذا النشاط أن أصبح ناشطوه من أوائل
من اختطفهم النظام، واعتدى عليهم بالضرب والإهانة، وهددهم وساومهم: أن تخرج
القوافل إلى سيناء بلا صوت، ولا إعلام، أو لا تخرج على الإطلاق؛ لأن
النظام كان يعلم أن الحراك السياسي الشعبي من أجل فلسطين يوصل إلى الحراك
السياسي الشعبي من أجل مصر، كما تعلم إسرائيل أن الحراك السياسي الشعبي من
أجل مصر سوف يوصل حتما إلى حراك من أجل فلسطين.
والمسألة ليست لغزا،
وليست خيارا بالمعنى الدقيق؛ بل هي حتمية؛ ففلسطين هي العمق الاستراتيجي
لمصر، هذه من ثوابت مصر الجغرافية - السياسية منذ صارت مصر دولة في الألفية
السادسة قبل زماننا هذا، وفلسطين في مركز المنطقة التي كانت لما يزيد على
ألف عام كتلة جغرافية، حضارية اقتصادية واحدة، في ظل تنوعها، والتي لن تقوم
لمصر قائمة دون أن تستعيد هذه المنطقة نوعا من التلاحم الخلاق، والقدس
وبيت لحم من أهم ديار الروح لمسلمي مصر وأقباطها؛ ولهذا كله فأهل فلسطين
أهلنا ونحن أهلهم.
تصف سيدة مصرية كيف نحّت عشاءها جانبا وهي تشاهد
التلفزيون أيام العدوان على غزة؛ فتسمع سيدة فلسطينية تقول كلاما "يوَقَّع
اللقمة من البُقّ".
وأزعم -أيضا- أن أغلب الشعب المصري يعي تماما سعة المساحة بين فعل
الحرب، وعدم الفعل؛ ولهذا فقد وقف سواد الشعب بتلقائية وإصرار نقي ضد كل
محاولات التطبيع التي كان يقوم بها النظام السابق؛ فكان هذا إصرارا على أن
يأخذ سلام كامب ديفيد شكل "اللا حرب" فقط، وليس السلام الحقيقي، وفي هذا
السياق أيضا تأتي تظاهراتنا أمام السفارة وأمام بيت السفير.
وفيه
تأتي المبادرة المحمودة بعدم تصدير سعف وجريد النخل المصري لإسرائيل، وفيه
يأتي ذلك الفعل الأسطوري الذي قام به أحمد الشحات حين تسلق الكذا وعشرين
دورا لينكّس العلم الإسرائيلي ويحرر سماء مصر منه، ويرفع علم مصر للجماهير
الشاخصة.
هناك مساحة كبيرة في اللا حرب، لكل فرد منا دور فيها؛
لنعمل فيها بجسارة وإبداع؛ لتحرير مصر من التبعية ومن الآثار المدمرة
لتعاون نظامنا مع إسرائيل في العقود الثلاثة الماضية، والعمل على تحقيق
العدالة لأهلنا في فلسطين، بدءا بفتح معبر رفح فتحا قانونيا عاديا مستمرا..
مصالحنا واحدة لا تعارض بينها، وعلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة إما أن
يحسن استخدامنا كضغط شعبي من ورائه، أو على الأقل أن يتركنا نقوم بواجبنا
كمدنيين.
سيدة تأتي متسربة من الخليل كل يوم لتبيع حِزَم النعناع
الأخضر على سلالم القدس العتيقة، قالت لي منذ سنوات: "بدناش رز، وبدناشكو
تحاربوا، بدنا مصر تلعب سياسة بس"، أرى ابني وابنها واحد: مش عايزة حد منهم
يعيَّط.