إنني أعتبر الأرض الإسلامية وطناً واحداً بحدوده الشاسعة ، وعندما أضطر إلى تتبع التقسيمات السياسية الموجودة الآن ، أحس بالمرارة والألم ، ولقد كان تاريخ الأمة الإسلامية في عصوره المختلفة ، مرتبط الحوادث ، متحد المشاعر ، متوافق العواطف ، مشتبك المصالح ، متصل الأجزاء . ورغم ما اصطنعته السياسة من حدود ، فأنت حين تسافر من الشرق الأقصى إلى المغرب الأقصى تمر بعدد من الدول وتتخطى مجموعة من الحدود ، وتختلف عليك أشكال من الحكم ، وقد تحس بما يعتمل في نفسية هذه الدول من عداوة وبغضاء ، وحروب حارة أو باردة، ولكنك في كل ذلك تشعر أنك تعيش في أمة واحدة ربطت بينها العقيدة ، التي وجهت قلوب أفرادها جميعاً إلى الإيمان بالله ، ومحبة الأخوان في الدين ، وتجد التاريخ الحقيقي لهذه الأمة التي تنبسط على أكثر قارات العالم ، في وحدة الشعور والعاطفة والعقيدة والأمل ، وفي طريقة التفكير والكفاح والعمل . وفي الاتجاه الذي يتجه إليه الأفراد والجماعات ، وفي عدم اعتراف هذه الأمة بالحدود التي تفصلها عن بعضها ، فتخترقها رغم حرس الحدود ، والعقوبات المترتبة على ذلك.
إن تاريخ الأمة يكمن في الأعمال اليومية من أفراد وطبقات هذه الأمة في وطنها العام ، بعيداً عن أحداث الدول ، هذه الدول التي تفرض سلطانها لتثبت قواعد حكمها ، وتقر دعائم نفوذها ، وتسخر كل شيء لإرضاء شهواتها ونزواتها، دون نظر إلى حقيقة الأمة أو مستلزمات الدين .
وحين يذهب بعض المؤرخين يتحدثون عن أعمال هذه الدول المختلفة ، حاسبين أنهم يتحدثون عن تاريخ الأمة الإسلامية ، يغفلون عن حقيقة هامة ؛وهي البعد الشاسع بين ضمير الأمة وعقيدتها ، وعملها وأملها ، وبين مجرى الحوادث التي تجرى عليها تلك الدول المستبدة ، إن حقيقة تاريخ الأمة أعمق من أن يكون أعمالا تقوم بها دولة دون أن تستمد هذه الأعمال من حقيقتين ثابتتين : دين الأمة، ورأى الأمة الحق . وحتى في هذه الحالة لا يكون تاريخ هذه الدولة تاريخا للأمة إلا إذا كانت الأمة كلها مجتمعة على اعتبار هذه الدولة واعترافها بها ، وخضوعها لأحكامها ، خضوعا شرعيا ، حسبما قرره الدين لتنظيم الدولة ، مع احترام كرامة الأمة سياسياً ، واجتماعيا ، واقتصاديا ، واحترام كرامة الفرد في سلوكه مع الدولة والناس ، وفي سلوك الدولة والناس معه .
إنني حين أتحدث في هذا الفصل وفي هذا الكتاب فإنما أتحدث عن الأمة الإسلامية ، والدولة المسلمة ، وما حديثي عن الفراعنة في أسطر سابقة إلا مثل عابر ، سقته لتوضيح فكرة … إن الحروب التي قامت بين الدولة الأموية والخوارج ، أو بينها وبين الشيعة ، أو بينها وبين الدولة العباسية ، أو بين غيرها من الدول التي تعاقبت على الحكم ، أو تنازعت عليه في مختلف العصور الإسلامية ، إن هذه الأحداث الدامية لا تكون من تاريخ الأمة الإسلامية ، لأن الناس الذين اشتركوا فيها كانوا محمولين عليها، إما بالخوف ، وإما بالطمع . وإما بالتغرير ، فهم ينفذون إرادة واحدة ولذلك اختلفت أنظار الأمة إلى القائمين بهذه الحركات . فأيدت كل قسم من هذه الأقسام طائفة من الناس ، من أجل الأغراض السابقة ، أما الأمة فهي تعرف أن تلك الحروب ليست لمصلحة الدين ، وليست لمصلحة الأمة . وعلل من ينطق برأي الأمة أسباب تلك الحروب فجعلها مرة ( الثريد الأعفر) ومرة أخرى ( بغلات معاوية الشهب ) .
إن هذه الحوادث ، ليست تاريخ الأمة ، فإن انتصار الدولة الأموية على الخوارج ، أو قضاءها على ابن الزبير ، أو تغلب الدولة العباسية على الدولة الأموية ، أو تغلب أية دولة مسلمة على دولة أخرى مسلمة ، لا يحسب مجداً للأمة المسلمة ، أو حقيقة من تاريخها ، فإنه ليس من تاريخ الإسلام ، ولا من تاريخ الأمة المسلمة ، ولا مما يحسب مجداً للإسلام ، أن يقضي بنو أمية على الخوارج والشيعة ، ولا أن ينتصر بنو العباس على بنى أمية ، ولا أن ينتزع بنو فاطمة كراسي الحكم من بنى العباس .
إن هذه الصور وأشباهها قد تكون صوراً من تاريخ رجال بنى أمية ، أو بنى فاطمة أو الخوارج أو ابن الزبير ، أو بنى العباس ، ولكنها ليست بحال من الأحوال صورة من تاريخ الإسلام ، أو تاريخ أمة محمد عليه r .
إما هذا العدد الوفير من الناس ، الذين تتكون منهم الأداة الحاكمة ، كالأمراء والوزراء والقواد والأعوان والأجناد في الدول المستبدة ، فهؤلاء لا يكونون جانباً من الأمة ، وإنما هم عبارة عن جهاز آلي ليس له إرادة ، ولكنه يتحرك بإرادة الحاكم المستبد ، سواء كان هذا الحاكم فرداً أو هيئة . إنهم عبارة عن صاروخ موجه ، يبعث به الحاكم للتدمير متى شاء ، ولن يدخل ضمن آلات هذا الصاروخ البشرى ، إلا خائف ، أو طامع ، أو مخدوع ، بالعقيدة ، أو المذهب ، أو الشعار ، وإلا فما هي مصالح الأمة في نقل أداة الحكم من بنى أمية إلى بنى العباس ، أو بنى فاطمة ، أو بنى تميم ، أو غيرهم من القبائل والأجناس ، وفيم يندفع آلاف من الناس ليحطموا بنى أمية، أو يحطموا الحسين ابن علي ، أو يحطموا بنى العباس ؟
وهب أن شخصا أراد أن يجرى تصفية على آلات هذا الصاروخ الذي تستعد دولة من الدول المسلمة ، لتضرب به دولة أخرى مسلمة ، فأخرج منه كل من دخل فيه بالخوف ، وكل من دخل فيه بالطمع ، وكل من دخل فيه بالخديعة والتغرير ، حين صورت له الحقائق على ما هي ليست عليه . هب أن شخصاً فعل ذلك فهل يبقى هذا الصاروخ صالحاً للعمل ؟ وهل يبقى من هذا الجند شيء يستحق أن يطلق عليه كلمة الجيش ؟ ويمكن أن يدخل معركة مهما كانت هذه المعركة صغيرة ؟ إنه لن يبقى بالتأكيد إلا اليد التي تمسك بزر الصاروخ ، وهي تضغط على فراغ .
والحقيقة التي أرمي إليها من هذا البحث الطويل ، أن تاريخ الدول الإسلامية التي تعاقبت على الحكم ، والتي تنازعت عليه ، والتي اقتسمته ، إن تاريخ هذه الدول ليس هو تاريخ الأمة الإسلامية ، لأن تاريخ الأمة الإسلامية إنما ينبع من ذاتها ومن نفسيتها ومن الأعمال التي تصدر عنها برغبة ورضا واقتناع ، دون تخويف أو تطميع أو تغرير. أما تاريخ الدول والأمراء والحكام فهو تاريخ أفراد لا يمثلون أمة ، بل كثيراً ما يكونون أبعد الناس عن الأمة وسيرتها .
ولما كانت الأمة الإسلامية أمة لها دين ، وضع لها نظماً كفيلة بإسعاد الإنسانية ، مجتمعاً وأفرادا ، وهذا الدين يساوى في الحقوق والواجبات بين جميع أتباعه ، من السلطان أو صاحب الحكم ، إلى أدنى رجل من الأمة ، فإن أولئك الذين يخرجون عن هذا المنهاج ، وينافقون عن أمر دينهم ، ويحيدون عن سبيله ، لا تحسب أعمالهم على الأمة ، ولا يوضع تاريخهم في مقام تاريخها ، لأن مسلك الأمة بيّن ، وتاريخها واضح ، وسلوكها على العموم جار في الطريق الذي اختارته إرادة الله ، ليؤدى بهذه الأمة إلى السعادة . السعادة التي يعلم حقيقتها خالق الإنسان ، لا السراب البراق الذي ينخدع به بصر الإنسان .
إن الله قد أختار لأمة محمد الإسلام ديناً ، وأوجب على الدولة وأداة الحكم فيه قانونا ، فما سارت على ذلك القانون فهي من الأمة ، وتاريخها وعملها ومجدها للأمة، وإذا انحرفت بها الشياطين عن سبيل الله ، فحسبها متاع الحياة ، وما متاع الحياة إلا غرور .
ولعل أوضح صورة لهذه الفكرة هي واقع الأمة الإسلامية في هذا العصر ، هذه الأمة التي تنتشر على أفريقيا وآسيا وأوربا ، وتاريخ هذه الأمة هو مجموع سلوك أفرادها وطوائفها ، تلك الأعمال التي تنبعث في كامل الوطن العام ، أما الأعمال التي تقوم بها هذه الدول المتناثرة في كثير من بقاع الوطن الإسلامي فليست من تاريخ الأمة . إنها تاريخ رجل ، أو رجال ، وصلوا إلى كراسي الحكم بوسيلة من الوسائل ، ومنهم من هو أبعد الناس عن فهم حقيقة الأمة ، وحقيقة مشاعرها ، وحقيقة أعمالها ومطالبها ، ومع أن الأمة وحدة لا تتجزأ ، فإن أولئك الذين يتولون الحكم ، ويحسبون أنهم أقاموا دولا ، لا ينفكون يقيمون الحدود بين أجزاء الأمة ، ليصنعوا منها أمما مختلفة : هذه عربية ، وهذه تركية ، وهذه فارسية، وغيرها ، ولم يكتف أصحاب المطامع والاستعمار حتى هذا ، فذهبوا إلى تقسيمها دويلات صغيرة جعلوا منها ممالك وجمهوريات .
إن هذا الشعارات الزائفة ، وهذه المبادئ الضالة ، أبعد ما تكون عن الإسلام، وعن تاريخ الإسلام . إنها جوانب من تاريخ أولئك العدد القليل من الناس ، الذين نادوا بها ، وفصلوا بين أبناء الأمة الواحدة ، والدين الواحد ، ليحققوا لأنفسهم شهوة السلطة ، وشهوة المتعة ، وشهوة المال .
ومن الأخطاء التي أوحى بها الاستعمار ، فتلقفتها آذان السياسيين من هذه الأمة ، فانطلقت بها ألسنتهم وأقلامهم : كلمة الصداقة والأخوة تزج بها بين هذه